05 - 05 - 2025

حمدين صباحي يكتب: نصيبي من الخطأ في ثورة يناير| مساهمة في النقد الذاتي (الخروج من الجنة!)

حمدين صباحي يكتب: نصيبي من الخطأ في ثورة يناير| مساهمة في النقد الذاتي (الخروج من الجنة!)

إلى حسام مؤنس وجيله
إلى كل المعتصمين بالأمل
والذين هجروا الأمل ويراودهم الحنين إليه

أقعد في ظلال الصورة وأتردد في النظر إليها، كلما ارتفعت نظرتي إلى مقامها العالي أضاءني الأمل وأعتمني الأسى.

أتأمل الحشد الهادر في الميدان، أُمعن التحديق في الوجوه، وجهًا وجهًا، أراهم يتألقون بتوهج الحلم وجسارة الفعل وسطوع اليقين.

أين هم الآن؟ وأي مشاعر تكسو وجوههم بعد سنوات الخذلان؟ إنهم جسد الثورة الذي توزعت أشلاؤه على الطرقات والبيوت والسجون، ينتظر إيزيس لعلها تستعيد لُحمة لَحمه المنثور.

كنت هناك، خاشعًا في صلاة الحرية، في التجلي الأبهى لشعب عظيم، الكل في واحد، بالقلوب والحناجر والسواعد ودماء الشهداء، يخلقون "جنة التحرير" ويشرعون أبوابها للحالمين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

"الشعب يريد إسقاط النظام"، فلما سقط رأسه - فقط رأسه - كنس الحالمون الطيبون أرصفة الميدان وخرجوا من الجنة. في نشوة اللحظة المنتصرة طغى العَشَم، والغُشم، فلم ننتبه لهول ما سنقاسي طوال أربع عشرة سنةً عجاف ينحسر فيها الحلم ويتغوَّل الكابوس.

لم تكتمل ثورة يناير، لم تنتصر لكنها لم تُهزم. لقد انكسرت وانتكست وحُوصرت وانحسرت وشُوهت وسُرقت ولاقت من صنوف التنكيل ما يشفي غليل الكابوس في انتقامه من الحلم. لكنها لم تزل على قيد الحياة والأمل. لم تزل طاقة الفرح في قلوب حزينة وطريق الخلاص لشعب مثقل بالمظالم والحرمان.

لم تنكسر الثورة فقط بسبب أساطين الكابوس بكل لؤمهم وبطشهم وترابطهم، وإنما - أيضًا - بسبب أولياء الحلم بكل غفلتهم وأخطائهم وتفرقهم. وأنا واحد مِمَّن أخطأوا. ولعل أخطائي أفدح وأوجع بقدر اتساع دائرة من أحبّوني وتعشمّوا فيَّ وراهنوا عليَّ.

أشهد أنني أخطأت.. وأقدم لكم اعتذاري

كم يحزنني شعورهم بخيبة رجائهم وبأنني خذلتهم.

لهذا أكتب هذه الرسالة، لأقول لهم: أشهد أنني أخطأت، وأقدم لكم اعتذاري. اعتذار لا يقتصر على من أحبوني، وإنما يمتد إلى كل من أحببتهم، وقد أحببت كل من شاركوا في "جنة التحرير"، وافقوني أو خالفوني، من الشهداء والجرحى والمعتصمين والمتظاهرين، إلى الذين لم يدخلوا الميدان لكنهم استحضروه في قلوبهم، إلى كل من حدثته نفسه بالدعاء أن ينصر الله الثورة ويحمي الثوار.

كل امتناني لمن يشاء أن يتكرم بقبول اعتذاري. لكنني أرجو ما هو خيرٌ وأبقى: أن نتشارك التعلم من أخطائنا، كي لا تنكسر ثورةٌ أخرى.

أبدأ بنفسي

انكسرت ثورة يناير ،"واللي انكسر يتصلّح" كما تقول حكمة شعبية بسيطة عميقة تُلهم أولياء الحلم في مواجهة "اللي انكسر عمره ما يتصلح" التي يتسلح بها مروجو الكابوس.

ثورات الشعوب ليست طريقًا ممهدًا ولا خطًا مستقيمًا، وما أكثر وأعظم الثورات التي تعرضت للانتكاسات والهزائم المؤقتة والانكسارات، وخاضت جولات من الكر والفر ومقاومة الحصار حتى اكتمل لها الانتصار؛ هذه إحدى سنن التاريخ وليست 25 يناير استثناءً منها.

لكنَّ انتصارَ ما انتكس وإصلاحَ ما انكسر مرهون بتوافر ظروف مواتية ومقومات كافية، في القلب منها تبلور بديل منظم كفء قادر، حائز على تأييد شعبي متسع. وهذا هو الواجب الأول والأهم الذي يتطلب الكثير من الاجتهاد الفكري والدأب الحركي.

إنه واجب الوقت، وكل وقت، والذين يندبون أنفسهم للنهوض به سيكونون أقرب للنجاح كلما حرصوا على استيفاء شرطين متكاملين؛ أولهما تجديد الإيمان بضرورة وإمكانية الثورة، وثانيهما القدرة على نقد مسيرة هذه الثورة. فكل نقد من موقع الولاء للثورة هو تحصين لأولياء الحلم من تكرار أخطائهم وتمكينهم من إصلاح ما انكسر.

لم يكن الإنسان ليتمكن من بناء حضارته وتجديدها عبر التاريخ لولا قدرته على اكتشاف أخطائه والتعلم منها، وهذا جوهر النقد ومقصده، ثم تأهيل نفسه للتصحيح وامتلاك مقومات تمكين الصواب. حتى ليمكن القول إن التاريخ هو تجلي اجتهاد الإنسان في تصويب الخطأ وإصلاح ما انكسر وتطويع ما استعصى، عبر سعيه لإشباع حاجاته ونيل حقوقه وتحقيق غاياته.

وكم ترافق النقد مع مراحل التطور والتجديد والازدهار، قدر ما تلازم التواطؤ والإنكار مع فترات الركود والتخلف والانحدار. وهذه سُنَّة أخرى من سُنن الاجتماع البشري، تدعو للقول بأن ممارسة النقد فريضة واجبة على كل عاقل يريد حياة أفضل للإنسان. أو فضيلة يليق بكل راشد حر أن يتحلى بها.

كان الربيع العربي تجليًا تاريخيًا عظيمًا وفريدًا لقوة الشعب، ثم سرعان ما حل الخريف موحشًا.

كان الربيع العربي، وفي القلب منه ثورة 25 يناير، تجليًا تاريخيًا عظيمًا وفريدًا لقوة الشعب، وإلهامًا آسرًا تجاوبت معه الدنيا بأكملها، وتفتحت معه مليون زهرة تُبشِّر بزمن جديد للعدل والمحبة والكرامة. ثم سرعان ما حل الخريف موحشًا، وطاردت كوابيس الأمس أحلام الغد السعيد، وانتكست ثورات الربيع في أقطار الوطن العربي، ما عدا الثورة الناجية - حتى الآن - في تونس، التي لم تزل تتعثر في محاولتها لتجسيد ما بشرت به.

ورغم مرور السنين، فإن هذا الحدث التاريخي الجلل - رغم إسهامات ثاقبة عديدة - لم يحظَ بما يليق به من درس وفحص، ولم يقدم المنتمون إليه ما يليق به وبهم من نقد ونقد ذاتي، يعينهم والآتين من بعدهم على استيعاب درس النكسة والتهيؤ لاستكمال الثورة. فما بين هتاف من امتدحوا الثورة صادقين وسباب من لعنوها حانقين، وفي حمى الاستقطاب وترويج الكراهية، لاقت الثورة فائضًا من المدح أو السباب، وندرةً في النقد.

كلنا يعرف أن كل ابن آدم خطاء، وبعضنا يؤمن أن خير الخطائين التوابون، وقليلنا يُقدم على الاعتراف بالخطأ. حتى أمسى النقد والنقد الذاتي فضيلة متروكة أو فريضة مهجورة، علينا أن نؤذن لأدائها.

ومن أذّن لفريضة وجب عليه أداؤها، ومن دعا لفضيلة سُئل عن التحلّي بها. لهذا أبدأ بنفسي. لكنني لا أطمئن للقيام بواجب النقد ما لم أسبقه بالنقد الذاتي، فنقدي لنفسي واعترافي بأخطائي في مسيرة الثورة يسبق نقدي لسواي، هذا أوجب وأليق وهو أزكي للنفس.

حتى لا تنكسر ثورة أخرى

بهذا يتحدد مضمون هذا النص في عرض "نصيبي من الخطأ" دون استغراق في التفاصيل، فلست بصدد التأريخ للثورة، وإنما التركيز على أخطائي في مسيرتها، والتي أعرضها في خمس نقاط: 

- الفشل في تشكيل مجلس رئاسي مدني يتولى السلطة في المرحلة الانتقالية

- التراخي في التوافق على مرشح يمثل الثورة في انتخابات 2012

- العجز في مواجهة بوادر الردة بعد 3 يوليو 2013

- ترشحي لانتخابات الرئاسة 2014

- التقصير في بناء التنظيم

ثم أختم هذا النص بمحاولةٍ لنقدِ وعيى الذاتي، ووعي النخبة التي شاركت في الثورة، أعرض فيها باختصار لبعض المفاهيم التي أراها أنضج وأنفع، تعلمتها من أخطائي ومن تأمل مسار ومآل التجربة.

في مناخ التربص كل اعتراف منّا بأخطائنا يذخِّر بنادق الثورة المضادة المصوبة نحو صدورنا ، بهذه الرسالة أؤدي واجبي الإنساني والأخلاقي، راجيًا أن تصل لقلوب وعقول من يتلقاها، وأن تحقق لهم ما حققت لي من سلام مع النفس. وأؤدي بعض واجبي تجاه المستقبل وأجياله الجديدة، لعل الوعي بأخطائنا يجنبهم تكرارها.

وأرجو لمساهمتي هذه أن تُشجِّع شركاء الميدان على أن يسهموا بنقدهم لمسيرة الثورة، ونقدهم الذاتي لدورهم فيها، فلعلنا معًا نثري حوارًا نقديًا جماعيًا رشيدًا يليق بنُبْل حلمنا ودماء شهدائنا وتضحيات مصابينا ويعيننا على أن نكمل المشوار. نحتاج إلى مشاركة جماعية، لأن كل نقد فردي لا بد أن يتأثر بوعي الناقد وانحيازاته، مهما تحرَّى الموضوعية والإنصاف.

وخلف كل مساهمة نقدية يكمن مثال نظري من القيم والمعايير والتصورات والـ"ينبغيّات" التي تُشكِّل مرجعية الناقد في حكمه على الحدث، وتكون مسطرة القياس التي تحدد درجة الخطأ أو الصواب فيما ينتقد.

والنقد ليس مجرد إصدار حكم قيمي على الواقع قياسًا على المثال؛ بل هو تقييم للواقع في سياق الظروف المتعينة التي حكمته في زمانه ومكانه، وإدراك خلَّاق للبدائل الممكنة في نفس الظروف. وهو ما أتحراه هنا قدر استطاعتي، فضلًا عن تحرِّي الإنصاف المستطاع في نقدٍ ذاتيٍّ مهددٍ بالانزلاق إلى إحدى نزعتين: التواطؤ على النفس تجمُّلًا أو جلد الذات تطهُّرًا.

وأعلم أنه في مناخ التربص وغياب قيمة الإنصاف، فإن كل اعتراف منّا بأخطائنا يمكن أن يذخِّر بنادق الثورة المضادة المصوبة نحو صدورنا منذ سنوات، وأن يُنزع من سياقه ليرمي حطبًا في نار الكابوس الموقدة لشَيِّ أولياء الحلم. وما كان لهذا التربص أن يمنعنا من أداء فريضة النقد. وما كنا لننتقد أنفسنا لولا ثقتنا بالنفس وبالثورة من بعد ثقتنا في الله والشعب، ولولا اليقين المُطمَئِن أننا اخترنا الطريق الصحيح.

نعم؛ أخطأنا أثناء السير لكننا لم نخطئ اختيار الطريق. نعم؛ انكسرنا لكننا لم نهزم. نعم؛ خسرنا لكننا لم نستسلم. والهزيمة المرحلية لا تنزع بطولة الثورة، والخسارة لا تنزع شرف الثوار. ما ينزع البطولة والشرف هو الاستسلام، هو الكف عن المحاولة، هو التخلّي عن الأمل. وبنا أمل لا نتخلى عنه ولا يتخلى عنّا، يحيا بنا ويُحيينا، نحرسه ويحمينا، ومعًا سنبقى حتى نحققه ويحققنا. ولنا من الإيمان والعزم والنقد ما يعيننا على تصويب أخطائنا وتجاوز انكسارنا ومواصلة الطريق حتى اكتمال النصر.

وسأحمل هذا الحنين

 إلى أوَّلي وإلى أوله

وسأقطع هذا الطريق 

 إلى آخِري وإلى آخِره(*)

ما بعد يناير: مذكرات جيل يحاول التجاوز

في نهاية المقدمة، أقدم واجب الشكر لصديقي الأستاذ محمد غريب، الشاعر المرهف الذي حرّضني على الشروع في هذا النقد الذاتي، والعرفان والامتنان لابنتي الأستاذة منى سليم الصحفية والكاتبة النابهة، التي لولا عونها الكريم ومثابرتها الملهمة ما أنجزت هذا النص، وللنخبة المتميزة من أخوتي وأصدقائي الأحباء، الذين راجعوا هذا النص وكان لملاحظاتهم الصائبة عظيم الفضل في تدقيقه(**).

الخروج من الجنة

أول اﻷخطاء: الفشل في تشكيل مجلس رئاسي مدني بشرعية الميدان

علمتنا سُنن التاريخ أن الثورات هي أرقى وأصعب محطات التدافع الاجتماعي، وهي أهم مفاتيح تطور المجتمعات. وأن كل ثورة متفردة كالبصمة. لكن كل الثورات تشترك في جوهر واحد هو التغيير الجذري الشامل الذي يتقدم بالمجتمع نحو تحقيق حياة أفضل للشعب، استجابةً لحاجاته وتحقيقًا لآماله. وبقدر إنجاز هذا التغيير ومدى عمقه وشموله واتساع القاعدة الشعبية التي تجني ثماره يُقاس نجاح أي ثورة.

كما تشترك كل الثورات في مسار رئيسي، إذا افترضنا أنه ألف خطوة، فإن الخطوة الأولى هي إسقاط السلطة القائمة، والخطوة الثانية هي إقامة سلطة الثورة، وهنا فقط يمكن قطع باقي الألف خطوة، وكلها تستهدف التغيير من أجل حياة أفضل للناس ماديًا ومعنويًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا.

كل حراك شعبي كبير يحتج على سلطة ظالمة أو يتمكن من إسقاطها هو مشروع ثورة؛ إذا توقف عند هذه الخطوة فهو انتفاضة، وإذا أنجز الخطوة الثانية فهو أمام احتمالين؛ إما مواصلة السياسات القديمة، ولو بتعديلات سطحية، وهذا هو الانقلاب، وإما تغيير شامل عميق فتلك هي الثورة. هذا هو المعلوم من الثورة بالضرورة.

تركنا المعلوم من الثورات بالضرورة

تحت شمس 25 يناير 2011 بدأ أعظم وأنبل وأوسع حضور شعبي في تاريخنا. تمكن المصريون من خلق جنة التحرير التي دامت ثمانية عشر يومًا، كل يوم بألفٍ مما تعدون، حتى صارت قبلة أحرار الدنيا ومرتجى المستضعفين في أرض الله الواسعة.

فلما كان مساء 11 فبراير/شباط، جاءت اللحظة الباهرة التي شهدت انتصار الثورة في خطوتها الأولى؛ إسقاط رأس السلطة. وهي اللحظة نفسها التي كان ينبغي فيها الإقدام دون أي تأخير على إنجاز الخطوة الثانية، وهي قيام سلطة ثورية بالإعلان في الميدان عن تشكيل مجلس رئاسي مدني مفوض شعبيًا، يتولى السلطة باسم الثورة، ويمارس الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية طوال فترة انتقالية ملائمة لإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.

لو أن الطلائع الثورية اتفقت على المجلس الرئاسي المدني لتهيَّأت قيادة القوات المسلحة لقبول الإرادة الشعبية

لكن اللحظة الباهرة غشت أبصار الثوار، فاكتفوا بالخطوة الأولى وتركوا الميدان قبل استكمالها وتحصينها بالخطوة الثانية الواجبة.

كيف تركنا الميدان قبل أداء هذا الواجب؟ كيف تجاهلناه؟ أو أغفلناه؟ أو تعامينا عنه؟ أو عجزنا عن إنجازه؟

كيف تقبلنا هذه المفارقة المبكية؛ الرئيس الذي أسقطه الشعب هو الذي يُحدد من يتولى السلطة بعد سقوطه؟! مبارك الذي لم يتمكن من إبقاء نفسه على كرسي الحكم يختار بنفسه من يجلس عليه؟!

سقط مبارك بإرادة الشعب ففقد كل شرعية تُخوّل له اختيار من يخلفه. ولم تكن ثمة مرجعية دستورية تنص على تولي المجلس العسكري زمام السلطة. وما أتاح الفرصة لسريان وصية مبارك غير الشرعية سوى عجزنا الفاضح عن إعلان تشكيل مجلس رئاسي مدني.

ولو أننا أنجزنا هذا الواجب، المعلوم من الثورة بالضرورة، لتغير مسار الثورة. ولو أن الطلائع الثورية والنخب السياسية أدت واجبها في الاتفاق على المجلس الرئاسي المدني، والحصول على تفويض شعبي من الميدان قبل إعلان تنحي مبارك أو عقبه مباشرة، لتهيأت قيادة القوات المسلحة لقبول الإرادة الشعبية التي انحازت لها. لقد كانت اللحظة التاريخية مواتية لإدارة شراكة بناءة بين الشعب وجيشه في إدارة المرحلة الانتقالية تحت قيادة مدنية، تستمد شرعيتها من جماهير الثورة في الميدان.

لا أركز على فداحة هذا الخطأ قياسًا على مثال نظري صائب فقط، بل إدراكًا للظروف الموضوعية التي كانت في تقديري تسمح لنا بتفادي الوقوع فيه. فلم تكن الفكرة غائبة عن قوى الثورة؛ بل حاضرة في الميدان وموضوعًا لنقاش متعدد الأطراف بين شركاء الثورة.

وكان رأيي أن نتوافق على تسمية مجلس رئاسي من سبعة إلى أحد عشر عضوًا، يمثلون القوى الرئيسية في الميدان على قاعدة "لا هيمنة ولا استبعاد". ومع المجلس برلمان من مائة عضو، على القاعدة نفسها. وأن نعرض نتيجة التوافق على الميدان للحصول على موافقته.

وقد شهدت تجمعات الميدان وخيام المعتصمين مساعي عدة للتوافق على تشكيل هذه القيادة. وتبلورت هذه المشاورات في اقتراح قيادة جماعية من مائة اسم يمثّلون كافة شركاء الثورة، على أن يختاروا مجلسًا رئاسيًا من بينهم. وبالفعل شرع المهندس خالد يوسف في عرض الاقتراح من فوق منصة الميدان، وبدأ في تلاوة الأسماء المقترحة، غير أنه حين وصل لاسم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، قاطعه الدكتور محمد البلتاجي، ونزع من يده الميكروفون، وأفشل المحاولة.

ثم داهَمَنا الوقت قبل أن نصل إلى نتيجة حاسمة، وسقط مبارك ونحن لم نحدد بعد بديلًا ثوريًا لإدارة الدولة في مرحلة الانتقال.

الجماعة وعمر سليمان

لا ألقي باللوم في هذا الخطأ على جماهير الثورة، وهي عمادها وحطبها ومصدر قوتها وشرعيتها، التي صمدت ببسالة، وكان من حقها الطبيعي بعد ثمانية عشر يومًا من الرباط في الميدان أن تعود إلى بيوتها وتطمئن على عائلاتها.

وإنما اللوم كله على القيادات التي حازت صفة تمثيلية في قطاعات شعبية وأحزاب وجماعات، وتمّرست في النضال ضد سلطة مبارك وكوّنت بينها من الخبرات المشتركة، خصوصًا في كفاية والجمعية الوطنية للتغيير والبرلمان الشعبي، ما يسمح لها بإنجاز هذا الواجب لو أنها تحلّت بقدر أكبر من العزم والحسم والبصيرة والقدرة على الاتفاق.

وربما كان أقرب المقربين لأداء هذا الواجب مَن واظبوا على اللقاء اليومي في عيادة الأستاذ الدكتور عبد الجليل مصطفى، على مشارف ميدان التحرير، الذي انتظم فيه ممثلون عن القوى السياسية وأداره هو بإخلاص ودأب، يعاونه المهندس يحيى حسين عبد الهادي.

أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه

وقد شهد هذا اللقاء من الاتفاق والخلاف ما يستحق التوثيق لأهميته وأثره، ومن بينه الخلاف على المشاركة في الحوار الذي دعا إليه اللواء الراحل عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة، وكنت تلقيت اتصالًا ليليًا من الدكتور محمد البلتاجي، علمت فيه بنيّة جماعة الإخوان المشاركة في هذا الحوار صباح اليوم التالي.

اختلفت معه وأوضحت له رأيي؛ أنه من الخطأ أن يستجيب أحد منّا فرديًا لدعوة الحوار دون قرار جماعي وموافقة مسبقة من الميدان، وأنني لن أقبل الحضور قبل استيفاء هذا الشرط، ورجوته أن يرجئ القرار حتى نلتقي باكرًا ونناقش الأمر جميعًا فوافقني.

أبلغت الدكتور عبد الجليل مصطفى والتقينا مبكرًا في عيادته، وأثناء النقاش الذي حضره الدكتور عصام العريان، وبينما كنت أعرض رأيي، فوجئنا بمعلومة أن ممثل الإخوان قد ذهب بالفعل للمشاركة في الحوار دون انتظار نتيجة تشاورنا.

نتحمل الوزر الأكبر

تتحمل جماعة الإخوان قدرًا كبيرًا من وزر هذا الفشل، لكن شركاء الثورة يتحملون وزرًا أكبر. لأنهم كانوا قادرين بدونها، لو اتفقوا وعزموا على تشكيل هذه القيادة بموافقة الميدان. ولو فعلوا، لما ارتضت الجماعة أن تبقى معزولة خارج الإجماع، وربما رشّدت سلوكها الفردي الذي جرها لتكون أول من حاور وأول من غادر.

لكننا فشلنا، فشلنا في تشكيل قيادة مُفوضة شعبيًا نحاسبها على إدارة الدولة واستكمال الثورة. وقد كنتُ واحدًا من هؤلاء. أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه. كان هذا الخطأ الأول هو الأفدح، بل لعله الخطيئة المؤسِّسة التي ترتب عليها أو لحق بها باقي الأخطاء.

بين خيام المعتصمين في الميدان، بجوار مسجد عمر مكرم، كنت آخر نهار 11 فبراير 2011 في خيمة قيادات الضرائب العقارية، الذين حققوا بإضرابهم واعتصامهم الطويل بقيادة المناضل كمال أبو عيطة انتصارًا مشهودًا، وانتزعوا أول تنظيم نقابي مستقل.

عندما ارتفع أذان المغرب اصطففنا للصلاة، قدموني إمامًا، وكنا في الميدان نؤتى رخصة القصر والجمع، فوجدتني أرفع صوتي بتلاوة سورة واحدة، كررتها في الركعات الجهرية الأربع للمغرب والعشاء، سورة النصر: إذا جاء نصر الله والفتح. وفي لحظة التسليم انتفض الميدان هادرًا بأهازيج النصر. وحين وجدتني مرفوعًا على أكتاف المبتهجين رددت ثلاثة هتافات:

- عاش نضال الشعب المصري

- عاشت ثورة 25 يناير

- الشعب يريد بناء النظام

ثم هبطت لأشارك في حلقة رقص جماعي، يدي تتشابك بيد شريك الحلم والسعي أمين إسكندر، والأحباء الآتين من كل مكان، خصوصًا من بلطيم، منتشين بفرح غامر لا مسبوق ولا ملحوق. ثم وجدتني، رغم ما عزمت عليه ودعوت إليه من تشكيل قيادة للثورة قبل ترك الميدان، أنصرف إلى بيتي مع المنصرفين.

في أول النصر وفي ذروة الفرح تركنا ميدان التحرير.

خرجنا من الجنة نحمل وزر الخطيئة الأولى.
-------------------------------
بقلم: حمدين صباحي
(نقلا عن موقع المنصة https://manassa.news)

مقالات اخرى للكاتب

حمدين صباحي يكتب: نصيبي من الخطأ في ثورة يناير| أصاب الشعب وأخطأت النخبة